الامام الصدر و”أبجدية الحوار”… الدكتور طلال حاطوم

الامام الصدر
و”أبجدية الحوار”

الدكتور طلال حاطوم

جريدة الجمهورية
الاربعاء ٢٩ أيلول ٢٠٢٣

كل زيارة الى الجمهورية الاسلامية في ايران تكون مقرونة بأمرين: الاول، زيارة ثامن الحجج الامام علي بن موسى الرضا (ع) في مدينة مشهد، والمعصومة فاطمة (ع) في مدينة قمّ، والثاني، زيارة عائلة السيدة حوارء الصدر ـ ابنة الامام المغيب السيد موسى الصدر ـ ومركز الامام الصدر في طهران.
لم نتخلّف خلال مشاركتنا العام الماضي في مؤتمر الوحدة الاسلامية الذي ينظمه كل عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية عن القيام بالامرين. فقصدنا برفقة الدكتور خليل حمدان ممثل الرئيس نبيه بري الى المؤتمر وسماحة العلامة الشيخ حسن عبدالله وممثل حركة امل في طهران الدكتور صلاح فحص مركز الامام الصدر في طهران والتقينا السيدة حوراء التي حمّلتنا، كعادتها، هدية من المركز تحوي مجموعة من الكتب المستلّة موضوعاتها من خطب الامام الصدر ومنها خطبته (اجتمعنا من اجل الانسان) في كنيسة الكبوشية المترجمة الى ثماني لغات حيّة.
وعلى الرغم من ادعائي انني قرأت الامام الصدر في كثير من خطبه ومحاضراته، الا ان الفرحة كانت كبيرة بالحصول على هذه الاجزاء المجمعة بدقة واناقة تليق بسماحته.
راجعت الذاكرة، والمكتبة، فشدني مجدداً اصرار الامام الصدر على الحوار، وافراده له الكثير من الخطب والكلمات، وقد قام مركز الامام الصدر قي بيروت بجمع هذه الخطب في كتاب بعنوان “ابجدية الحوار”، الذي لم يقتصر على الدعوة الى الحوار بين الاديان والطوائف والمذاهب، بل تعدى الى الحوار السياسي حول العناوين الوطنية والتفاهم على اسس بناء الدولة ومواجهة الحرمان الاجتماعي في كل المناطق اللبنانية دون استثناء لمكوّن او منطقة لأي سبب من الاسباب التي غالباً ما كان يتذرع بها النظام انذاك.
الامام الصدر كان يعرف ان الاختلاف واقع بين اللبنانيين لأكثر من سبب: نسبة المشاركة في السلطة ودورها، الانماء غير المتوازن بين المناطق، الاهمال المتعمد للتنمية والمساواة بين اللبنانيين، وجه لبنان الحضاري حيث كان التمويه بأن لبنان ذو وجه عربي، حتى النظرة الى العدو الصهيوني كانت موضع تهرب من المواجهة تحت شعار: ان قوة لبنان في ضعفه. مما افقد لبنان من مناعته:
1ـ وبكلمة واحدة مهما عدّدنا بهذه المحنة المأساة من أسباب أجنبية وعربية ودولية يختلف على تحديدها اللبنانيون باختلاف مشاربهم ومصالحهم وانتماءاتهم، يبقى أمر واضح لا خلاف عليه، هو أن الجسم اللبناني كان قد فقد مناعته الطبيعية وأمسى عرضة لجميع المضاعفات.
2 ـ أن الوطن بمعناه العميق، ليس أرضاً محددة وحسب، تلتقي عليها طوائف ضمن مناطق متعايشة سلمياً في نوع من الحذر والتحاسد والتمويه، بل هو قبل كل شيء مناخ استقرار وطمأنينة وثقة في إخاء حقيقي، وحرية مسؤولة وطموح على بساط العدالة الاجتماعية في إطار تكافؤ الفرص للجميع، وفي احترام حضاري للكرامة الإنسانية.
3 ـ أن واجب الدولة، واجبها الأول، هو إنماء روح المواطنية الصحيحة في نفوس المواطنين، بكل ما لديها من وسائل. ومن الفضول القول أن جميع الوسائل الناجحة للوصول إلى هذا الهدف الأسمى هي أصلاً بحكم طبيعتها، بيد الدولة.
4 ـ أن المآسي في حياة الشعوب الراقية بواتق انصهار وتجدد وتألق، وليس كثيراً على الشعب اللبناني العريق في أصالته أن يخرج من مأساة العامين الرهيبة، وقد انصهر وتجدد وتألق، فيعمد إلى تعمير ما تدمر في بنيانه الاجتماعي، بل إلى تجديد هذا البنيان من أساسه بما يكفل له وحدة وطنية حقيقية، لا رياء فيها ولا زيف، وحدة يكون فيها الوطن الحي، الدائم التجدد على أرض الوطن.
كان الامام الصدر واثقاً ان هناك مدخلين لمعالجة الاختلاف الحاصل والذي كان ظاهراً في شكل حرب القبائل والعشائر اللبنانية التي البست لبوساً طائفياً وسميت زوراً “الحرب الاهلية”، وكأن “الاهالي” هم سببها ومفتعليها، بينما هم وقودها ومن يتحمل اثارها المدمرة للبشر والحجر.
المدخل الاول، استمرار الاقتتال بين اللبنانيين مع ما يسنجلب ذلك من تدخلات تزيد اشتعال اللهيب اللبناني.
الثاني، ان يتحاور اللبنانيون ويتفقوا على ثوابتهم الوطنية بما يزيل القلق ويبدد الهواجس عند كل المكونات التي تشكل المجتمع اللبناني. ومن هنا رفع شعار الحوار كباب اساس لحل المشاكل ورفض عزل اي مكون لبناني مهما كانت الاسباب والمبررات حين رُفع شعار عزل “الجبهة اللبنانية” انذاك.
وهو لذلك وضع خطوطاً عريضة لينطلق الحوار الجدي بين اللبنانيين على اسس واضحة، متفق عليها بينهم، لينطلق من المشتركات فيوسع مروحتها، حتى تتكامل الصورةبما يتوافق ورؤية اللبنانيين الى مستقبل وطنهم، فيقول:
في ما لا يمكن القبول به:
1ـ أننا نرفض رفضاً باتاً أية صورة من صور التقسيم تحت ستار لا مركزية سياسية أياً كانت هيكليتها، وعلى العكس نرحب بأية صيغة للامركزية الإدارية التي من شأنها تعزيز الحكم المسؤول في المناطق واختصار المعاملات الروتينية وتقريب القضاء من المتقاضين واشراك الهيئات الشعبية والبلدية ومجلس المحافظات في إدارة الشؤون المحلية.
2ـ التوطين: أن توطين الفلسطينيين في أي جزء من لبنان، بأي شكل من أشكال التوطين مرفوض رفضاً قاطعاً. مع التأكيد على الالتزام بالعمل لاستعادة الشعب الفلسطيني حقه في وطنه في نطاق سيادة لبنان الوطنية وسمعته الإقليمية.
3 ـ تشويه وجه لبنان الحضاري بتحطيم دوريه العربي والدولي، أو بقطعه عن المد الحضاري الإنساني، أو بجره إلى أي محور سياسي عربي أو دولي، بحيث يتقوقع ويتقزم، أو يتحيز ويفقد طابعه المميز.
4 ـ تحجير الصيغة اللبنانية، بحيث يبقى عامل القلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازات فئوية، بينما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، وبحيث يبقى العاملان معاً ثغرتين في الكيان تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه.
هذه النقاط، يهمنا أن نشدد على رفضها جملة وتفصيلاً لأنها شبه قنابل موقوتة، لا بد من أن تؤدي إلى الانفجار عند أول فرصة تسنح.
ومن مبدأ ضرورة المشاركة في بناء الدولة دون معارضة اية افكار بناءة تصب نهر العبور الى الدولة، يضيف:
في الخطوط الكبرى للإصلاح المنشود:
نعي بعمق وشمول، أننا لسنا وحدنا في الوطن لنفرض ما نشاء، وبالانفتاح على جميع الأفكار الخيرة، نطلب بمحبة واخلاص إلى سائر الطوائف والهيئات السياسية أن يبلوروا في أنفسهم هذا الوعي الوطني البناء.
فلبنان للجميع، لا فضل فيه لأحد على أحد وإذا كان لا بد من تمييز، فالفضل لمن يعطي من مواهبه ونشاطه واخلاصه، وليس لمن يأخذ من طريق الآخرين وعلى حساب الوطن.
بهذه الروح نطرح الخطوط الكبرى للإصلاح الذي نرتأيه، كورقة عمل في الحوار المرتقب. ونحن، إذ نعلن عن استعدادنا لمناقشة أي بند من هذه البنود، ولوضع دراساتنا بتصرف المسؤولين، نؤكد سلفاً أمرين أساسيين:
الأول: إن هذه النقاط عامة يحتاج كل منها إلى توضيح وتفصيل من قبل رجال الاختصاص في كل بند.
والثاني: أننا مستعدون للقبول بأي اقتراح في هذه المجالات تتفق عليه أغلبية اللبنانيين.
اذاً، يقول الإمام الصدر حول التعاون والاتحاد بين جميع الفئات السياسية اللبنانية: “الشرط الأساسي لكي نتمكن من أن نجمع هذه الأفكار والألوان والتجارب ومنطلقات التعاون، الشرط الأساسي وجود الاحترام المتبادل بين أبناء هذه البلد، لا خوف من وجود الألوان من الأفكار والآراء في هذه البلد لكن المهم أن يكون هناك ثقة متبادلة، والثقة المتبادلة لا تحصل الا بالاحترام المتبادل. يجب أن تحترمني وانا احترمك.”
كان الإمام الصدر يرى أن الدين بعيد كل البعد عن الانغلاق والتقوقع في صدفة الخوف من الاخر، وكان يرى أن غاية الدين انقاذ البشر واساسه خدمة الانسان. فأناس مثل الإمام الصدر كانوا يؤمنون بأن حل المشاكل البشرية لا يتحقق إلا عن طريق الحوار المبني على التسامح بمعنى رفض الاحقاد، والتعددية في الحوار بين الاطراف وليس الحوار الفردي بين الجهة الواحدة، والانسانية التي تجمع كل البشر مهما اختلفت معتقداتهم واديانهم.
هي “ابجدية الحوار” التي يحتاجها الوطن في ايامه الصعبة هذه لتكون نهجاً مستداماً.