حتّى تكونَ الثورةُ ثورةً!

حتّى تكونَ الثورةُ ثورةً!

(هذا كا كتبته مع اندلاع ما سُمّي بثورة ١٧ تشرين، علّها تُنعش ذاكرة من انتقدوا رأيي حينها…)

الخوري أنطوان القزي

قرّرت كعادتي أن أكتب لأنّني لا أعرف لغة الشتم والتحقير، وقرّرت اليوم تحديدًا أن أكتب، حتى لا أحكم بانفعاليّةٍ ولا تسرّع، وأنا متيقّنٌ سلفًا أنّ ما سأكتبه لن يرضي إخوتنا الذين يفترشون الساحات مدافعين عن كرامتهم ولقمة عيشهم التي تغمّست بالدمّ، لا لأنّني أنا، بل لأنّها الحقيقة التي لا ولن تُعجب كثيرين، إلاّ أنّها تبقى الحقيقة وما تعوّدتُ إلاّ أن أكون شاهدًا لها.

أودّ بدايةً أن أعبّر عن فخري واعتزازي بإخوتي في المواطنة، الذين انتفضوا لكرامتهم ولو متأخّرين، وما يقومون به ليس مجرّدَ حقٍّ، وصاحبُ الحقّ له ملء الحريّة أن يضحّي بحقوقه… بل هو واجبٌ بحسب ما تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة، والتنصّل من الواجب جريمةٌ بحقّ الشعوب وخيرها العام.
ولا بدّ من الإقرار بوجود مؤشّراتٍ إيجابيّة عديدة وجديدة لم يشهدها مجتمعنا، لعلّ أبرزها كسر حاجز الخوف من سطوة الزعماء من جهة: فديست صورهم على الملأ وأُحرقت، فتكسّرت بذلك سلاسل الاستعباد المزمن… ورفض استغلال الأحزاب ورجالات السياسة لهذه الحركة المطلبيّة ممَّن في السلطة أو من خارجها دون استثناء أحد من جهة أخرى.

نعم هم ساستنا وحكّامنا الذين تناسوا أنّ كلّ سلطةٍ هي من الله، والله لا يمنحك شيئًا لنفسك بل لخدمة الآخر. أمّا وقد استغلّوا السلطة لمصلحتهم وعاثوا بها فسادًا على حساب الشعب، فقد تحوّلوا إلى حيواناتٍ مفترسة نهشوا رعيّتهم ونكّلوا بها فتبدّدت، على ما يقول النبيّ حزقيال في الفصل ٣٤ من كتابه.
أمّا مصيرهم هو تمامًا كمصير الخادم الجاهل الذي قال في نفسه “سيّدي سيتأخّر مجيئه” (متى ٢٤: ٤٨)، لكن ثقوا هو آتٍ لنصرة الشعب المظلوم ولينتقم له بقوّة حبّه.

إلاّ أنّه من حقّي كمراقبٍ أن أتساءل، محاولاً أن أقرأ في مظاهر هذه “الثورة”:

أوّلاً: هل تساءلتم من يقف وراء هذا الحراك ومن يغذّيه؟ وماذا يريد؟ هناك النواة التي انتفضت بعفويّة دون شكّ، لكن من غير الممكن الاستمرار بعفويّة ودون تنظيم.

ثانيًا: سمعت الكثيرين يطالبون بإسقاط الحكومة والمجلس النيابيّ وحتّى رئيس الجمهورية. وإن افترضنا تحقّق ما تصبون إليه، فما هو البديل؟ كيف ننظّم الانتخابات دون حكومة؟ هل تصبون إلىالفراغ؟ أم لعلّكم تريدون الفوضى؟ أليس الأجدى بنا الذهاب إلى انتخابات نيابيّة مبكّرة تفرز حكومة على قدر طموحاتنا؟ علمًا أنكم أنتم نفسكم من انتخبتم هؤلاء ومنكم من قبض الرّشوة غير آبهٍ بمصير الوطن، وأنا هنا لا أستثني أيّ تيّار أو حزب… رأينا جميعًا كيف أنّ المثقّفين في بلادي تهاووا على حساب رؤوس الأموال والتجّار والفاسدين… الحساب لا يكون بشلّ الأعمال ولا بتدميرالوطن فوق رؤوسنا جميعًا كرمى لسفارةٍ من هنا وجهازٍ من هناك، فزمن الانتخابات هو زمن المحاسبة.

ثالثًا: الثورات الحقيقيّة لا تصنعها الشتائم، ولا الأغاني، ولا التخريب، ولا التهجّم على القوى الأمنية… الثورة الحقيقيّة يقودها المفكّرون والمثقّفون… فمن الذي يفاوض باسم من يفترشون الساحات؟ من يحمل البدائل والاقتراحات ويجترح الحلول؟ لا مكان لهم ولا وجود.

رابعًا: لمن يتهجّم على مقام رئاسة الجمهوريّة وإن اختلف مع شخص الرئيس بالسياسة، وبمعزلٍ عن إسمه، أقول له ما قاله البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير في معرض دفاعه عن مقام الرئاسة، بالرغم من اختلافه مع شخص الرئيس “نهار يلّلي بينسمح نعمل هيك مع لحّود رَح تصير قاعدة وبصير كلّ فترة إذا حدن ما عجبوا الرئيس بدّو يشيلوا… وبصير حيط الرئاسة واطي”… كلام حكيمٍ يُغني عن الشّرح والتفصيل.

تابعوا نضالكم وانتفاضتكم، لكن لا تقبلوا أن تعيشوا أنتم ليموت الوطن، وحسبي أنّ يكون نضالكم اليوم قد أقنعكم أن الانتخابات لا تُقاس بحفنة دولاراتٍ من هنا ولا بخدمةٍ رخيصة من هناك، بل باختيار من يشبه أخلاقنا وقيمنا، ومَن تاريخه يشرّف حاضر الوطن ويؤسّس لمستقبله…
أمّا أنا، فخائفٌ على وطني من غيمةٍ دكناء تلوح في الأفق، من أن تجتاح من هم في الشوارع، وتحمل إلى بلدي شتاءً قاسيًا تحت مسمّياتٍ ربيعيّة…