نهضة الحسين (ع) مواقف وقِيَم… السيد بلال وهبي

نهضة الحسين (ع) مواقف وقِيَم
✋ “اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ”

قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع): “لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) نَظَرَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ وَوَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لَا يُبَالِي بِالْمَوْتِ!
فَقَالَ لَهُمُ الْحُسَيْنُ (ع) صَبْراً بَنِي الْكِرَامِ، فَمَا الْمَوْتُ إِلَّا قَنْطَرَةٌ يَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى الْجِنَانِ الْوَاسِطَةِ وَ النَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إِلَى قَصْرٍ، وَمَا هُوَ لِأَعْدَائِكُمْ إِلَّا كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ إِلَى سِجْنٍ وَعَذَابٍ، إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص): أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، وَالْمَوْتُ جِسْرُ هَؤُلَاءِ إِلَى جِنَانِهِمْ، وَجِسْرُ هَؤُلَاءِ إِلَى جَحِيمِهِمْ، مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ”.

في هذا النَّصِّ أمور عديدة بالغة الأهمية تكشف عن شيء من مكنون الحسين (ع) وأصحابه الأوفياء الأبرار.
أولاً: رباطة جأش الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه أمر شهد به أعداؤهم في ساحة كربلاء، قال عبد الله بن عمار بن يغوث: فوالله ما رأيت مَكثوراً قط، قد قُتِلَ وُلده، وأهل بيته وصحبه، أربط جأشاً منه ولا أمضى جَناناً، ولا أجرأ مَقْدَماً، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها، ولم يثبت له أحد.
والمَكثور هو الذي تكاثر القوم عليه، وقد تكاثر المتوحِّشون على الحسين يوم العاشر من المُحَرَّم، وكانت أعدادهم عظيمة، كُلٌّ يريد أن يُشارك في طعنه، أو ضربه، أو رميه ولو بحجر، لِيُشْهَدَ له عند ابن زيادٍ طَمَعاً في الجائزة.
ثانياً: نورُ وجوههم شهد بها الأعداء أيضاً، فهذا هلال بن نافع يروي قائلاً: إنّي لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ: أبشر أيّها الأمير، فهذا شَمر قد قتل الحسين (ع). قال: فخرجت بين الصفين، فوقفت عليه، فإنه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً مُضَمَّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيأته عن الفكر في قتله.
ولا تُعجَب قارئي الكريم من نور وجه الحسين، ولو كان مُضَمَّخاً بالدم، فقد كساه الله من جلال نوره، ومن يجعل الله له نوراً في وجهه لا يستره دم ولا تُعيبه جراحات. وإذ كان الوجه يُشرق بالسرور فكيف لا يُشرق وجه الحسين وقد لقي الله بالشهادة، وتَلَقَّاه الله بالقبول والرِّضا والرضوان. وإذا كان الوجه يستبشر بالطمأنينة فكيف لا يشعُّ وجه الحسين (ع) بالنور وقد لقي الله بنفس آمنة مطمئنَّة.
ثالثاً: عدم مبالاتهم بالموت من أوضح المواقف في كربلاء، فهذا ولده عليُّ الأكبر يقول: إذا لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.
رابعاً: إن الإمام يرى الموت سعادة. فبه يلقى الإنسان الله، قال (ع): ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا بَرَماً.
خامساً: يذكر الإمام (ع) سبب سعادته بالموت، فَمَا الْمَوْتُ إِلَّا قَنْطَرَةٌ يَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى الْجِنَانِ الْوَاسِطَةِ والنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إِلَى قَصْرٍ.
سادساً: يذكر علاقة المؤمن وعلاقة الكافر بالدنيا، فهي سِجن للأول وجَنَّة للثاني، أما كونها سِجْناً للمؤمن فلا شَكَّ بذلك، ففي الدنيا حق وباطل، وظلم وعدوان، والمؤمن محاصَر فيها بالشهوات والشياطين والطُغاة وكلهم يضغطون عليه، فلا راحة له إلا في الجَنَّة حيث الحياة النقية الطاهرة، والآمنة الوادِعَة. والكافر بخلافه، عيشه في الدنيا قصير، وعذابه في الآخرة طويل.
✍ السيد بلال وهبي
فجر يوم الأحد الواقع في: 30/7/2023 الساعة (03:55)